13‏/09‏/2016

سبتمبر .. البلح والجوافة واستمرار الحياة

زهرة الساكورا وزهرة الجوافة

في كوكب اليابان، يحترم اليابانيون ويحتفون جدا بزهرة "الساكورا" وهي زهرة شجرة "الكرز" والسر في ذلك هو أنهم يرونها زهرة مبهجة بألوانها وشكلها البديع، رغم قصر عمرها، فهي تمثل لهم الطبيعة سريعة الزوال، وهو ما يعطي لهم فلسفة ومعنى للحياة. ناس طيبين قوي يا خال !!
لذلك ترى صورة "الساكورا" في كل مكان في اليابان، على العملات، والملابس، والأطباق، والأدوات المكتبية، واللوحات، فضلا عن وجود الكثير من الأغاني التي تتحدث عن "الساكورا".


--
أثناء التجهيز لإصدار ديواني الأول "بايني كبرت" قام مصمم الغلاف (اللي ما يعرفنيش) باستخدام صورة مغبشة تبدو كصورة رحلة مدرسية لمجموعة أطفال، في إشارة إلى الزمن، وليكمل تصميمه الجميل، استخدم "ورقة نتيجة" وظفها بشكل فني في جانب الغلاف، لكن الصدفة البحتة جعلته يختار ورقة نتيجة من شهر "سبتمبر" وهو لا يعلم أني من مواليد هذا الشهر، وأن هذا الديوان تحمل صفحاته قصيدة تتكلم عن "شهر تسعة" ومجيئه وروائحه.

يهل تسعة من كل عام
يفتح لي ع الذكرى الشبابيك
ريحة الورق .. ريحة الاقلام
ريحة الكتب .. ريحة الأساتيك


شهر تسعة بالنسبة لي ..
بداية المدارس .. رائحة الكتب المدرسية الجديدة يوم استلامها من المدرسة .. رائحة الحذاء الجديد من صيدناوي .. رائحة الأساتيك المنعشة، والمقلمة وبري الأقلام 
الرصاص.

شهر تسعة ..
عربات الكارو في قريتنا التي تحمل البلح من الغيطان إلى المناشر، وجرينا ونحن أطفال وراء "العربجي" لينفحنا "بلحات" من حمولة العربة، أو بمعنى أدق، ليسمح لنا بانتزاعها من عراجين البلح في مؤخرة العربة.

شهر تسعة ..
رائحة الجوافة التي تعبق بها الشوارع والطرقات، وصوت البائع الجهوري "جوافة حلوان القشطة" أيام ما كان فيه جوافة وكان فيه حلوان.

آآآآآآآآه .. البلح والجوافة .. لماذا لا يحظيان بالاحترام الواجب؟!!
هما في رأيي فاكهة الفقراء والأغنياء على السواء .. فهناك بيوت لا تعرف التفاح ولا الكيوي ولا حتى المانجو، وهناك في المقابل بيوت لا تعرف الحرنكش ولا التين الشوكي. ولكن لا أظن أن بيتا لا يدخله في "سبتمبر" البلح والجوافة.
نعم .. أنا من مواليد "البلح والجوافة" .. لذلك لم يكن غريبا أن أجد مسجلا في "كراسة النقوط" القديمة، وفي تاريخ ميلادي، 2 كيلو جوافة أتت بهما جارتنا كـ "نقوط" بمناسبة مولدي. تراني أحببت رائحتها منذ ذلك الوقت؟!!

إذا كانت "الساكورا" بالنسبة لليابانيين هي رمز "الحياة الخاطفة" فبالنسبة لي فإن البلح والجوافة هما رمز "استمرار الحياة" وتجددها بكل ما فيها من شقاء وبهجة، بما فيها من فقر وغنى.

يمكننا أن نجد الكثير من أوجه الشبه بين هاتين الفاكهتين وبين الساكورا .. في تعدد الاستخدامات .. فيما تتركه من بهجة في النفس .. في تعلق الناس بها .. حتى أن اليوم الأول من الدراسة في اليابان يصادف موسم تفتح أزهار الكرز، تماما كارتباط الجوافة بموسم المدارس عندنا.

ولكن تبقى لكل ثقافة خصوصيتها .. كانت الساكورا رمزاً محفزاً لليابانيين، فقد كان الطيارين اليابانيين يرسمون الساكورا على جوانب طائراتهم قبل الشروع في المهمات الانتحارية التي كان ينفذها الكاميكازي، ويرمز رسمهم للساكورا على جوانب قاذفات القنابل إلى الجمال والحياة سريعة الزوال، وكانت الحكومة تشجع الناس على الإيمان بأن المحاربين الفدائيين الذين قتلوا في المعارك دفاعا عن الوطن تتجسد أرواحهم في أزهار الكرز التي لا زالت وستظل رمزا لجمال الطبيعة اليابانية.
يصعب أن نتصور صورة "جوافاية" أو بلحة على طائراتنا الحربية أو قاذفات القنابل، أو أن نلقن أولادنا أن أرواح المحاربين تتجسد في شكل "كيلو جوافة" أو "سوباطة بلح" في عالم مواز. بل على النقيض، ففي ثقافتنا ربما نستخدم هاتين الفاكهتين أحيانا في السخرية أو الاستهزاء، فعندما يريد أحدهم أن يؤكد لك على وجوده القوي، فإنه يتساءل مستنكرا "إنت فاكرني كيس جوافة؟!" بينما تخلد السينما المصرية في فيلم "بداية ونهاية" هذه الأغنية الخالدة التي زفت بها "نفيسة" في الكراكون "يا حلوة يا بلحة يا مقمعة شرفتي إخواتك الاربعة" وهي نفس الزفة التي استقبل بها السجناء رجال نظام مبارك عقب ثورة تم اختطافها أكثر من مرة. هذا فضلا عن الارتباط الشرطي في ثقافتنا بين الجوافة والقرص وزيارة المقابر، ربما لرخص ثمنها مقارنة بغيرها من الفواكه.


في مصر القديمة، امتد منذ القدم احتفال بعيد مصري يعود الى آلاف السنين، هو عيد "النيروز" وكان أول من احتفل بذلك العيد هو العلامة المصرى القديم (توت(الذى قسم السنة إلى 12 شهرا، وجعل بداية أيام فيضان النيل هو أول أيام السنة، ومنذ ذلك الوقت سمى المصريون الشهر الأول من التقويم القبطي باسمه (شهر توت).
كان المصريون عبر التاريخ يقيمون الاحتفالات والمهرجانات الكبيرة احتفالا بهذه المناسبة. أما عن سر التسيمة فكلمة النيروز هي كلمة فارسية استخدمها الفرس عندما دخلوا مصر وأرادوا أن يحتفظوا بالتقويم المصري القديم. وأطلقوا لفظة (ني روز) علي أول يوم من أيام التقويم ومعناها (اليوم الجديد). وكان هذا اليوم عند الفراعنة هو تاج الأعياد لأنه يرتبط بحياة مصر الزراعية، وكانوا يحتفلون به احتفالا رائعا باعتباره عيد الفيضان الذي يحي أرض مصر.

أرايت؟؟ استمرار الحياة.
ولكن ما علاقة هذا بما نحكي فيه؟!
الطريف أن من مظاهر هذا العيد تناول عدد من الفواكه على رأسها البلح الأحمر والجوافة، وذلك –حسب كتابات مسيحية- له دلالات ورموز، فقد تحول الاحتفال بهذا العيد بعد عهد الإمبراطور الروماني دقلديانوس، إلى احتفال بآلاف الشهداء الذين عذبهم دقلديانوس، فالبلح يشير لونه الأحمر إلى دماء الشهداء، ولونه من الداخل أبيض إشارة لطهارة الشهداء، وبه نواة صلبة وصامدة دلالة على قوة الإيمان.

من باب الفضول، قمت بالبحث في موضوع الجوافة ده، لأتأكد أني لست وحدي في هذا العشق، ومن خلال البحث عرفت أن "رائحة الجوافة" هو عنوان كتاب شهير لماركيز، يناقش العديد من محطات حياة ماركيز، وسيرة ذاتية ترصد حاجاته ورغباته الخرافية (حسب تعبيره) ولحظات تأزم الكتابة على مكتبه، وساعات عديدة قضاها وحده عندما كان شابا في قراءة الشعر في جميع أنحاء المدينة وفي المواصلات العامة .. ألم أقل لكم ؟؟.. إنه استمرار الحياة. ولكن الاكتشاف الأهم -باعتباري شاعر عامية- أني وجدت قصيدة للوالد فؤاد حداد بعنوان "رقصة الجوافة":


آه يا جوافه يا جوافتهم
أه يا جوافتى يا جوافتهم
في الجَوِّ فتنه
والله خيبه
اللي خوفْتنا
وبعد غيبه
رجعِتْ وافتنا
ورجعت انادي
من السنة دي
يا حلو حلوانْ يا جوافهْ
من غير ما احْاربكْ
قلبي انْسحر بكْ
هلّيت اسلّم بلطافهْ


تحية لشهر تسعة وكل مواليد شهر تسعة ..
شهر تسعة .. المدارس
أيام ما كان فيه تربية وتعليم
شهر تسعة .. الجوافة
أيام ما كان لها ريحة
شهر تسعة .. البلح
قبل البيوت ما تغتصب الغيطان
شهر تسعة .. ذكرى ميلادي
اللي بيفكرني كل سنة إني موجود في الحياة دي لحكمة .. بحاول أكون قدها.
عام جديد مر من عمري في رحلتي إلى ربي.
كل سنة وانتم بخير .. وانا معاكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق